نصوص للمطالعة مفيدة للإنتاج الكتابي حول الفقر و الخصاصة

 نصوص لإثراء الزاد اللغوي حول الفقر و الخصاصة

النص الأول: الشيخ أحمد

الشيخ أحمد, قاحل, أصفر الوجه, نحيل الجسم, إذا مشى سار الهوينا لضعفه و انحلال قواه, و إذا نظر إليك انبعث من عينيه بريق يهز أوتار قلبك و يبعث فيه الشفقة. فتراه في صبيحة كل يوم يحمل على ظهره المقوس, ألواح الثلج, يسير بها في الشوارع, ليودعها في البيوت و القصور, و ما ساقه إلى ذلك غير الإحتياج, فهو من الفقراء البائسين.

و اعتدنا أن نرى ذلك المسكين في كل صيف. غير أننا في هذا العام حرمنا رؤية وجهه البائس شهرا من الزمن, شعرنا خلاله باختفاء شيء ألفنا رؤيته. ثم ظهر الشيخ أحمد ذات يوم يحمل على ظهره ألواح الثلج كعادته, و رأيناه يطرق بابنا, و يدخل فناءنا, فناديته فلبى ندائي, و وافاني و هو يتعثر في مشيته, فسألته عن سر غيبته, فقال: " كنت رهين السجن يا سيدي". ثم أخذ يقص علي قصته, و أردف قائلا: " إنك تعرف ذلك الرجل الذي يشتري الملابس الرثة ثم يبيعها في الطرقات بعد إصلاحها… لقد سألته يوما شراء ثوب كان في يده, و ساومته الثمن, فأبى أن يبيعه بدينار, و غادرني و سار في طريقه, و لكنه التفت إلي بعد حين, و ناداني قائلا: "هات الثمن و خذ الثوب". فأعطيته الدينار, و هو كل ما أملك, فوضعه في جيبه و سار في طريقه, فعدوت وراءه لآخذ الثوب, و لكنه نهرني, ثم ضربني فالتفت يمنة و يسرة لعلي أجد في الطريق رجلا ذا شهامة و مروءة يساعدني على استرجاع مالي منه, فلم تقع عيني على غير آكام الرمال. فعدت أدراجي صفر اليدين…" و هز رأسه حسرة, و تنفس الصعداء, و قال:

" و لكني أقسمت أن أنتقم من ذلك الظالم… و قابلته بعد ثلاثة أيام و كان قد وضع حمله أمام بيت و دخل يساوم بعض الخدم على شراء ثوب عتيق. فأخذت من بين بضاعته الثوب الذي كنت دفعت ثمنه, و إذا بالرجل يخرج من البيت, و يجري ورائي, و يمسك بتلابيبي, و يأخذ الثوب مني و ينهال علي ضربا و لكما, ثم يقودني إلى مخفر الشرطة. فحكموا علي يشهرين قضيتهما بين جدران السجن" ثم ابتسم الشيخ أحمد و قال:

" و لكني لا أكذبك القول, لقد كنت على أحسن حال في سجني, فما شكوت ضيقا و لا جوعا." 

النص الثاني: الغني و الفقير

مررت ليلة أمس برجل بائس, فرأيته واضعا يده على بطنه كأنما يشكو ألما, فرثيت لحاله و سألته ما باله, فشكا إلي ألم الجوع, فخففته عنه ببعض ما قدرت عليه, ثم تركته.

و ذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء و النعمة, فأدهشني أني رأيته أيضا يده على بطنه, و أنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير. فسألته عما به, فشكا إلي التخم و البطنة. فقلت في نفسي: " يا للعجب!

هذا يئن من طوى      و ذاك يشكو من بشم "

لو أعطى الغني ذلك الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام, ما شكا واحد منهما سقما و لا ألما. لقد كان جديرا به أن يتناول من الطعام ما يهجع جوعه, و يطفئ غلته, و لكنه كان محبا لنفسه, مغاليا بها, كان أنانيا, فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير, فعاقبه الله على قسوته, و على أنانيته بالبطنة, حتى لا يهنئ للظالم ظلمه, و لا يطيب له عيشه, و هكذا يصدق المثل القائل: " بطنة الغني انتقام لجوع الفقير".

ما أظلم الأقوياء من بني الإنسان, و ما أقسى قلوبهم! ينام أحدهم ملء جفنيه على فراشه الوثير, و لا يقلقه في مضجعه أنه يسمع أنين جاره و هو يرتعد بردا. و يجلس أمام مائدة حافلة بألوان المآكل و صنوف الطعام, شوائه, حلوه و حامضه, لا ينغص عليه شهوته, علمه أن بين أقربائه و ذوي رحمه من تتواثب أحشاؤه شوقا إلى فتات تلك المائدة, و يسيل لعابه تلهفا على فضلاتها, و تحسرا على قشامها.

فلا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان بأتم معنى الكلمة حتى أراه محسنا, لأني لا أعتمد فضلا صحيحا بين الإنسان و الحيوان إلا الإحسان.

النص الثالث: الجائع المتسكع

في هذه اللحظة تراني أضرب على جبيني, فلا أجد فيه سوى الفراغ الذي هو أشبه شيء بخواء بطني و أمعائي. فهذا هو اليوم الأول بعد الثلاثين الذي أبحث فيه عن عمل, فلا ألقى إلا الرفض و الطرد و لا أقابل إلا بمط الشفاه.

و مازلت  إلى الآن مجدا في بحثي. و حدث أني قرأت قبل أسبوع, في إحدى الصحف, أن الشركة القومية للبناء في حاجة إلى موظفين, فأسرعت و عبأت مطلبا مطولا, و بعد انتظار طويل كانت النتيجة خيبة مرة, مؤلمة, إذ لم تكن معي " بطاقة توصية ", و هل يمكن لحضرة المدير أن يقبلني دون أي وساطة؟ ذلك ما قاله لي كاتب المدير و هو يسوي رباط عنقه.

و المهم أني أريد نقودا بأية وسيلة كانت, لأني في حاجة إلى القوت و الكساء. و انطلقت أجوب الشوارع المكتظة بالناس السائرين في اتجاهات مختلفة, و تابعت مسيري, متسكعا كعادتي, في جميع أنحاء المدينة. و كنت أبصر الجميع يتسابقون حولي, و الأولاد يحملون كتبهم, و يسعون إلى المدارس كالأرانب المذعورة. و في الحافلة كان الركاب يتزاحمون, و يدوس بعضهم بعضا. و رأيت رجلا يتعلق بسترة آخر, فيوقعه على الأرض, و يسقط فوقه, و عندما نهضا ثانية, تبادلا البسمات.

و انتهى بي المطاف إلى ساحة الإستقلال, و الساعة تعلن الثانية تماما, و رفعت عيني إلى العمود الذي يحمل الساعة الكهربائية, فبدا لي كأنه في حالة تقلقل و اهتزاز... فقد مضى علي أكثر من يوم دون أن أبتلع شيئا من القوت. و عندما بدأت أبتعد عن واجهات المخازن, شعرت بدوار في رأسي, فاصطدمت بشرطي كان واقفا على حافة الرصيف. فقال لي: "انتبه يا هذا, و انظر أين تضع قدميك." فاعتذرت إليه, و ابتعدت بخطوات متمايلة... و فجأة ملأت خياشيمي رائحة توابل زكية. فاستفاقت أمعائي و نقت ضفادعها, و أطلقت صرخات مكتومة, و سئمت إذ ذاك التجوال و صرت في أتعس حال.

تعليقات