إنتاج كتابي عن عبث الطفولة
مما لا يمكن أن أنساه من أيام عبث الطفولة, حادثة مضحكة على غاية من الطرافة أريد أن أقصها اليوم على مسامعكم.
قلت مرة لنفسي: لماذا لا أخرج للناس متنكرا كما كان يفعل الولاة و السلاطين و الخلفاء, و كما كان يفعل هارون الرشيد و جعفر البرمكي؟ فاشتريت لحية كثة طويلة تبلغ شبرا و بعض شبر, و شاربين كأنهما جناحا خطاف, و حاجبين غليظين, و مسحوقا أبيض أذره على شعر رأسي... و شرعت أجرب, و كنت أوصد الباب علي و أنا أفعل ذلك. فلما وثقت بأني قد أحكمت التنكر و أني أستطيع أن أقوم, و أقعد, و أمشي, و أحرك رأسي, و ألمس لحيتي, و أفتح فمي, و أرفع حاجبي في هيئة المستغرب, و أضحك, و آكل, و أشرب... من غير أن تسقط اللحية المستعارة, أو ينحرف أحد الحاجبين, أو يتدلى شارب على حين يبقى الآخر مفتولا, واقفا إلى جنب أنفي... و لما وثقت بكل ذلك خرجت إلى أهلي, و على وجهي هذه الأشياء, و في يدي عصا غليظة أتوكأ عليها, و قد تقوس ظهري من الهرم.
فلم تكد تقع علي العيون في مدخل الباب حتى صرخت أمي و جدتي, و أسرعتا فسترتا وجهيهما من هذا الشيخ الغريب. أما أخي الصغير فقد وثب على قدميه, و صاح في يسألني من أنا, و أخذ يأمرني بالخروج, و ينعتني بقلة الحياء و سوء الأدب و يهددني بالشرطة, و بجميع أنواع العذاب و العقوبات, و أنا أقول له بصوت مرتعش: "حلمك و عفوك يا بني. أليس في قلبك شيء من الرحمة و الشفقة؟"
و لكنه كان لا يعبأ بشيخوختي و لا يرثي لحالي, بل يزيد قسوة و عتوا, و يدفعني عن الباب بغضب, فأكاد أسقط على الأرض...
و لكن الفصل المضحك حقا من هذه الرواية الهزلية يبدأ عندما أنزع دفعة واحدة جميع تلك الأشياء الكاذبة, و أظهر أمامهم بوجهي الحقيقي, فيندهش الجميع, ثم يندفع كلنا في قهقهة عريضة, طويلة, عالية, تكاد لا تنتهي.
مقتطف من قصيدة عبث الطفولة لأبي القاسم الشابي
كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير
قضيتها وسط الطبيعة لا رقيب و لا نذير
أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور
و تتبع النحل الأنيق و قطف تيجان الزهور
و تسلق الجبل المكلل بالصنوبر و الصخور
و بناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيور
مسقوفة بالورد, و الأعشاب و الورق النضير
نبني فتهدمها الرياح, فلا نضج و لا نثور
و نعود نضحك للمروج, و للزنابق, و الغدير
و نخاطب الأصداء, و هي ترف في الوادي المنير
و نعيد أغنية السواقي, و هي تلغو بالخرير
و نظل نركض خلف أسراب الفراش المستطير
و نمر ما بين المروج الخضر, في سكر الشعور
فنسير ننشد لهونا المعبود في كل الأمور
و نظل نعبث بالجليل من الوجود و بالحقير
و بالسائل الأعمى, و بالمعتوه, و الشيخ الكبير...