إنتاج كتابي عن الحياة في القرية

 إنتاج كتابي عن الحياة في القرية



تدخل البيت القروي, سواء أقصرا كان أم كوخا, فتعجب بما فيه من نظافة و ترتيب, و تدرك في الحال أن المرأة القروية سيدة في بيتها و أن بيتها إنما يبوح بما فطرت عليه صاحبته من حب التنظيم, و التدبير, و اللباقة, و إكرام الغريب, و التعلق بأسرتها, و القيام بواجباتها البيتية على أتم ما تسمح به ظروفها المادية و الإجتماعية. فإن القرويين, إذا طرقهم غريب, لا يوصدون أبوابهم في وجهه, و لا يعطونه اللقمة بيمينهم, و يسارهم ممدودة إلى كيسه. لكنهم يكثرون السؤال شأن القرويين في كل مكان إذا حل بهم غريب: من؟ و إلى أين؟ و لماذا؟... و نحوها من الأسئلة.

و إن نزلت ضيفا على أحد القرويين, لمست جمال الروابط العائلية و متانتها, فالأسرة وحدة متماسكة, متضامنة.

و إذا اتفق لك أن تمر بقرويين يعملون في حقولهم و كرومهم و جنائنهم, أدهشك ما في عضلاتهم من قوة و جلد, و ما في قلوبهم من حب للأرض, و كل ما تنبته الأرض. فقد تقع على جماعة منهم يلغمون الصخور بالبارود لينقوا منها فسحة ضيقة يصونونها بالحجارة, ثم يغرسون فيها جفنات من الكرم أو الزيتون, أو فسائل من التفاح أو غيره من الأشجار المثمرة. إنهم ينتزعون لقمتهم من ضلوع الجلمود, فيأكلونها مغموسة بعرق جبينهم, و يستطيبونه لأنها شريفة طاهرة. و قد تقع على والد يحصد قمحه, و من خلفه ابنه الشاب يجمع الحصيد و ينقله على ظهره إلى البيدر.

ترى الفلاح في حقله, و يده على محراثه, و عيناه تلمعان و صدره يعلو و يهبط, و أمامه ثوراه الجلودان الأمينان, و تحت رجليه تربة أرضه اللدنة السخية, و في صدره أنفاسها و أنفاس أعشابها و أزهارها, و في أذنيه ترانيم العصافير المرفرفة على أفنان أشجارها

و ما أكثر ما تمر بقرية من القرى المعلقة في الجبال, فيدلك أهلها على بيت حقير من بيوتها قائلين: من هذا البيت خرج فلان... و فلان هذا قد يكون مهندسا, أو من مشاهير الشعراء, أو الكتاب, أو من فطاحل العلماء, أو من كبار المواطنين الذين صار لهم صيت عريض في دنيا المال و التجارة.

هنا حياة حرة طليقة, و جو مفتوح, و هواء جديد, لم تفسده الحضارة بدخانها و غازاتها و سمومها, و لم تحبسه الأبنية الشامخة, و لم تحجزه الحيطان الأربعة, تتجدد النفس بتجدده, و تمتلئ نشاطا من نشاطه.

إن الإنسان ليشعر حقيقة بجمال الكون, يوم يخرج من المدينة إلى الريف, و يفر من الحضر إلى البادية و أحضان الطبيعة, فيكشف له الخلق بجماله القشيب, و تأخذه بلبه السماء في لا نهايتها, و البحار في أبديتها. و تروقه في تلك الجنة الزاهرة منظر المياه المتدفقة التي تدور حول الأشجار كأنها عقود و قلائد, و تنثني في تدفقها, و تتلوى في سيرها, كما تتلوى الحيات المذعورة الهائمة على وجهها, ثم تتلاقى أطرافها, فتكون بركا صغيرة مستديرة, يحف بها العشب الأخضر, كام تحف الأهداب بالعيون. و يزيد في بهاء القرية و فتنتها منظر الشمس ساعة الأصيل, و قد تعلق قرصها, متوهجا كاللهب الأحمر, ينثر تبره في الفضاء, و يرسل أنواره على أعالي الأشجار, فتتساقط من بين الأوراق و الأغصان كأنها الدنانير المبعثرة, و يستحيل الزهر, في سكون ذلك الجو, أحجارا جامدة و جواهر كريمة من الزمرد و الزبرجد و الياقوت و الفيروز.




تعليقات